أبنــاء يتخلّــون عــن آبائهــــم بحجـــج واهيـــــة
لم تعد ظاهرة إهمال المسنّين وإساءة معاملتهم أمرا غريبا في مجتمعنا، هذا الواقع تعكسه الطرقات والشوارع والمرافق العامة وغيرها، في وقت صارت فيه دور العجزة «حلما» عند الكثير من فئة العمر الثالث، وإذا كانت الأسباب معروفة لا يستطيع أحد إخفاءها وتبريرها، فإن الحلول المقترحة لم تحظ بالعناية الكافية على الصعيدين الرسمي والجمعوي.
«الشعب» زارت دار المسنات بحي السلام في وهران، حيث تتواجد أخوات وخالات وجدّات وأمّهات متخلى عنهن بحجج واهية لا يقبلها العقل أو المنطق...وكم هي لحظات مؤثّرة ونحن في هذا المأوى والكل يتسابق إلينا لحضننا حضن الأم الدافئ والدعاء لنا بدعاء مبارك عظيم، وذلك الإحساس المؤلم وتلك الأم ترينا صورة ابنة ابنتها والدموع في عينيها، وأخرى تهبنا هدية من صنع يدها وتطلب منّا وكلها حزنا أن نتذكّرها بقبرها لأنّ حالتها ميئوس منها، بعدما تحالف عليها المرض والهرم.
وما سجّلناه حول هذا المأوى ليس سوى انطباعات أو أفكار أولية، لكن ما تأكّدنا منه أنّ الكثير من العجزة يفضّلن الشارع والمؤسّسات المتخصّصة لتجنّب الخلافات بين المتكفّلين بهم حول كيفية تقسيم المسؤوليات.
كما أنّ هناك من يجدن أجواء أنسب لهن في مثل هذه المرافق، حيث يختلطن بأناس من أعمارهن فتكون أفكارهم وهمومهم ومواضيع حديثهم مشتركة، من أمثال السيّدة «زينة» التي استفادت سابقا من سكن اجتماعي، إلاّ أنّها فضلت عدم البقاء مع ابنيها اللّذين كانا بدار الطفولة المسعفة لعدم قدرتهما على التكفل بها لفقرهم، قبل أن يتم دمجها وسط عائلتها من قبل هذه الدار التي وفّرت لها كافة احتياجاتها من ملبس ومشرب وأدوية، ومختلف شروط الحياة الكريمة من فحوصات طبيبة ومتابعة نفسية.
ويحصل عادة في هذه الحالة الكثير من سوء التفاهم وعدم امكانية استيعاب كل طرف للآخر، بسبب اختلاف الأجيال وعوامل أخرى، فتكثر المشكلات والخلافات، الأمر الذي قد يحول رعاية الأولاد للوالدين أو أحدهما عبئا نفسيا ثقيلا على الطرفين.
وهو حال «محجوبة» هذه السيدة التي أنجبت ذكرين وبنت أحبّوها حبّا جمّا، رغم أنّها لم ترعاهما ولم تعطيهما الحنان اللازم، وهذا ما أسفر عنه التحقيق الاجتماعي الذي باشرته هذه المؤسسة. وأشار إلى أنّها حالة استثنائية، حيث اعتادت هذه الأم منذ زواجها على الترحال والمبيت خارج بيتها بسبب اضطرابات سلوكية، وسبق لأبنائها وأن بحثوا عنها وبعد عناء وجدوها في دار المسنين «دالي ابراهيم» بالجزائر العاصمة، قبل أن يعودوا بها إلى مقر إقامتها بوهران، إلاّ أنّها فضّلت إكمال ما تبقى من حياتها بعيدا عنهم، فيما دأب أولادها على تنظيم زيارات دورية لها والتداول على أخذها لمنزلهم خاصة خلال المناسبات، لكنها لا تفوّت الـ 10 أيام لتحتّم عليهم إعادتها للمؤسسة من جديد.
مدير دار المسنّات عمر درورة: المجتمع يعاني من شرخ كبير
ولما كان بر الوالدين من القربات العظيمة، تسابق إليها كرام النفوس، من أمثال دار المسنات بحي السلام، وعلى رأسهم مديرها درورة عمر، الذي أكّد على «ضرورة التنبيه وقرع جرس الإنذار لمزيد من التعامل الإنساني مع هذه الظاهرة»، معتبرا أنها «دليل على الشرخ الكبير الموجود في المجتمع».
قال إنّ المركز يستقبل مئات الطلبات، لاسيما في إطار حملات جمع المتشرّدات بدون مأوى، إلاّ أنّ طاقة الاستيعاب لا تفي بالغرض، ناهيك على أنّ أغلب الحالات لا تتوفر فيها الشروط المتفق عليها، مثمّنا في الوقت ذاته دور الوزارة الوصية التي لم تدّخر أي جهد للتكفل بكل احتياجاتهم، وكذا الحركة الجمعوية والمجموعات التطوعية، وغيرها من فعاليات المجتمع المدني والمؤسسات المدنية والأمنية.
وحسب درورة فإنّ القوانين السارية المفعول واضحة ومهام الفرقة المتعددة الاختصاصات التابعة للدار تكمن أساسا في التكفّل بالفئة العمرية من 65 سنة فما فوق، بدون إصابات عقلية أو اضطرابات سلوكية، متخلى عنهم بدون روابط عائلية في وضع اجتماعي ونفسي صعب.
وتتكفّل هذه المؤسسة التي لا تتعد طاقة استيعابها الـ 70 شخصا حاليا بـ 58 مقيمة مقسمين عبر جناحين، يضم الجناح «ب» نحو 35 امرأة مصابة بأمراض عقلية واضطرابات سلوكية مستعصية، فيما تعاني أغلبية المقيمات المستقلات بذاتهنّ في جناح «أ» من أمراض مزمنة، أبرزها أمراض القلب والسكري وفقدان الذاكرة، يضيف محدّثنا أنّ الطاقم العامل يسهر على تأمين الإقامة اللائقة وتقديم كافة أوجه الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والترفيهية التي تتيح لهم التوافق النفسي، وتوفّر لهم الراحة والطمأنينة وتوثّق الصلة بينهم وبين البيئة الخارجية.
ضرورة الفصل بين الفئة المريضة عقليا والسّليمة
وعليه دعا إلى التفكير الجدّي في إنشاء مراكز متخصّصة بالمقيمات المصابات بأمراض عقلية، هذا ﻟﻀﻤﺎن ﺗﺪﺧّﻞ وﺗﻜﻔّﻞ ﻧﺎﺟﺢ بهذه الفئة من «العمر الثالث» التي تتميّز عن غيرها بخصوصيات كبيرة، أهمّها راحة البال والهدوء، موضحا بأنّ مركز الأمراض العقلية بسيدي الشحمي الوحيد على مستوى الجهة الغربية يعاني هو الآخر ضغطا رهيبا بعدما فاق عدد الحالات به ثلاثة أضعاف من طاقة استيعابه.
كما أكّد على ضرورة إحاطة هذه الظاهرة الدخيلة على المجتمع الجزائري بالدراسة والأبحاث وإقامة المؤتمرات والندوات، وانطلاقا من أهمية الإعلام والمؤسسات المسجدية في طرح القضايا وتحريك الرأي، ناهيك عن الاستثمار في التربية في مرحلة الطفولة، مع التركيز على جانبي التحسيس والتوعية بمختلف الجوانب الطبية والنفسية والاجتماعية، وكل الأمور التي تتعلق بكبار السن.
قال درورة وكلّه فخر واعتزاز أنّه سيسعى جاهدا إلى عمل المزيد لتحقيق «السعادة والإيجابية» وإعطاء وجه جديد للمفهوم «الكلاسيكي» لدور العجزة، من خلال إشراكهم في الأنشطة الترفيهية والعلمية والمشاريع المختلفة، على غرار الغرس والتزيين والأشغال المنزلية، قبل أن يختم بالقول «الدرس الذي استخلصنها من هذه التجربة هو أنّه ليس هناك أي شخص في منأى عن هذا الوضع الهش».
وقد شاركت «الشعب» المقيمات ورشة الخياطة والأشغال اليدوية بتأطير من السيدة كلول مليكة، مربية متخصّصة منذ 23 سنة لتزور بعدها مخدع الملابس والزينة القريب من الحمام ذو الطابع المغربي بإشراف بن يعقوب أمينة، وكذا المطبخ بأكلاته المتنوعة وغرف النوم المجهزة بكافة لوازمها حتى وصلت صالة التلفاز، فجلست لتبادل أطراف الحديث والتسامر مع المقيمات، والأجمل أن ترى السعادة والإحساس في عيون أمهاتنا، رغم أن أقرب الناس إليهم كسّروا جميع آمالهم في الحياة.
وما أثارت حفيظتنا أنّ جميع محاولات الإدماج الاجتماعي وإصلاح ذات البين بين الأبناء وآبائهم تبوء بالفشل، كما أنّ عديد الحالات يعثر عليها في مرحلة متقدمة من مرض الزهايمر أو مصابة باضطرابات نفسية، وأمراض مستعصية تعكس متغير العمر الزمني والوضعية التي عايشوها بالشوارع ومكان إقامتهم السابق.
وكثيرة هي النماذج التي نسمع عنها ونراها في مجتمعنا اليوم سواء تعلق الأمر بعقوق الأبناء لآبائهم أو سوء معاملتهم، إلا أنه لا نعلم السبب في تجاهل الكثير لهذا الموضوع، رغم أنّ طاعة الوالدين واجبة بكتاب الله وسنة نبيه ــ صلّى اللّـه عليه وسلّم ــ